الخطبة الأولى
أما بعد: فإن الله خلق الخلق ليعرفوه ويعبدوه ويخشوه ويخافوه، ونصب لهم الأدلة الدالة على عظمته وكبريائه ليهابوه ويخافوه خوف الإجلال، ووصف لهم شدة عذابه ودار عقابه التي أعدها لمن عصاه ليتقوه بصالح الأعمال، ولهذا كرر سبحانه وتعالى في كتابه ذكر النار وما أعده فيها لأعدائه من العذاب والنكال وما احتوت عليه من الزقوم والضريع والحميم والسلاسل والأغلال وغير ذلك مما فيها من العظائم والأحوال، ودعا عباده بذلك إلى خشيته وتقواه، والمسارعة إلى امتثال ما يأمر به ويحبه ويرضاه واجتناب ما ينهى عنه ويكرهه ويأباه.
فعلينا أن نتأمل ونتدبر ما ورد في القرآن الكريم والسنة الصحيحة، وينبغي لنا أن نتعرف على سيرة السلف الصالح من أهل العلم والإيمان من الصحابة والتابعين، ونتأمل علم أحوالهم وما كانوا عليه من الخوف والخشية والإخبات، ونعلم أن ذلك هو الذي رقّاهم إلى تلك الأحوال الشريفة والمقامات الرفيعة من شدة الاجتهاد في الطاعات والانكفاف عن دقائق الأعمال المكروهة فضلاً عن المحرمات، ولهذا قال بعض السلف: "خوف الله عز وجل حجب قلوب الخائفين عن زهرة الدنيا وعوارض الشبهات". قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6]، وقال تعالى: وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [آل عمران: 131]، وقال تعالى: فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى [الليل: 14]، وقال تعالى: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنْ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ [الزمر: 16].
وعن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((اتقوا النار))، قال: وأشاح، ثم قال: ((اتقوا النار))، ثم أعرض وأشاح ثلاثًا حتى ظننا أنه ينظر إليها، ثم قال: ((اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة)) رواه البخاري ومسلم، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((إنما مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد نارًا، فجعلت الدواب والفراش يَقَعْنَ فيها، فأنا آخُذُ بِحُجَزِكُمْ عن النار، وأنتم تَقَحَّمُونَ فيها)) رواه البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى، وعنه رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [الشعراء: 214] دعا رسول الله قريشًا فاجتمعوا فَعَمَّ وخصَّ فقال: ((يا بني كعب بن لؤيّ، أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني مُرَّةَ بن كعب، أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني هاشم، أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني عبد المطلب، أنقذوا أنفسكم من النار. يا فاطمة، أنقذي نفسك من النار؛ فإني لا أملك لكم من الله شيئًا)) رواه مسلم واللفظ له والبخاري والترمذي والنسائي بنحوه، وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يخطب يقول: ((أنذرتكم النار، أنذرتكم النار))، حتى لو أن رجلاً كان بالسوق لسمعه من مقامي هذا، حتى وقعت خميصة كانت على عاتقه عند رجليه. رواه الحاكم وقال: "صحيح على شرط مسلم".
فيجب على المسلم أن يكون خائفًا من النار مستعيذًا بالله منها، قال الله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ [آل عمران: 190-192]، وقال تعالى: وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ [الإسراء: 57]، وقال عز وجل: وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ [المعارج: 27]، وقال سبحانه: ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ [إبراهيم: 14]، وقال تعالى: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ [الطور: 25- 27].
ولقد كان النبي كثيرًا ما يستعيذ من النار ويأمر بذلك في الصلاة وغيرها، فعن أنس رضي الله عنه قال: كان أكثر دعاء النبي : ((ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرةِ حسنة، وقنا عذاب النار)) رواه البخاري، وعن جابر أن النبي قال لرجل: ((كيف تقول في الصلاة؟)) قال: أَتَشَهَّدُ ثم أقول: اللهم إني أسألك الجنة وأعوذ بك من النار، أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، فقال النبي : ((حولها ندندن)).
وورد أيضًا أنه لما أنزل الله على نبيه قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6] تلاها رسول الله ذات يوم على أصحابه فخرّ فتى مغشيًا، فوضع النبي يده على فؤاده فإذا هو يتحرك، فقال رسول الله : ((يا فتى، قل: لا إله إلا الله)) فقالها، فبشّره بالجنة، فقال أصحابه: يا رسول الله، أَمِنْ بَيْنِنا؟! فقال: ((أوَما سمعتم قوله تعالى: ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ [إبراهيم: 14]؟!)).
وقال يزيد بن حوشب: ما رأيت أخوف من الحسن وعمر بن عبد العزيز، كَأَنَّ النارَ لم تُخْلق إلا لهما. وورد أيضًا من حديث أبي بكر بن عيّاش قال: صليت خلف الفضيل بن عياض صلاة المغرب، وإلى جانبي ابنه عليٌّ، فقرأ الفضيل: أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ [التكاثر: 1]، فلما بلغ لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ [التكاثر: 6] سقط عليّ مغشيًا عليه وبقي الفضيل لا يقدر يجاوز الآية، ثم صلى بنا صلاة خائف. قال: ثم رابطت عليًا فما أفاق إلا في منتصف الليل. وقال ابن أبي ذئب: حدثني من شهد عمر بن عبد العزيز وهو أمير المدينة أنه قرأ عنده رجل: وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا [الفرقان: 13] فبكى عمر حتى غلبه البكاء وعلا نشيجه، فقام من مجلسه ودخل بيته وتفرق الناس.
فعلينا أن نعرف من أحوال السلف الصالح رضي الله عنهم الكثير بعد تكرار كتاب الله وسنة رسول الله ؛ لأنهم رُزِقُوا الخوفَ من الله والخشية والإنابة الصادقة، وحتى تتغير حالنا التي نشكوها إلى الله؛ حيث لا نجد من يُذَكِّرُنا بالله لنرجع ونتوب إلى الله من ذنوبنا التي حالت بيننا وبين طاعة ربنا والتقرب إليه والابتعاد عما حرمه علينا لِنَنْجُوَ من النار.
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع))، وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((عينان لا تمسهما النار: عين بكت في جوف الليل من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله عز وجل))، وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي قال: ((ما من عبد مؤمن يخرج من عينه دموع ولو كانت مثل رأس الذباب من خشية الله ثم تصيب شيئًا من حرّ وجهه إلا حرمه الله على النار)).
الخطبة الثانية
الحمد لله يوفق الطائعين ويذل العاصين ويتوب عليهم إذا تابوا وأنابوا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فقد ورد في قصة الإسراء والمعراج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله : ((أُتي بفرس يجعل كل خطوة منه أقصى بصره، فسار وسار معه جبريل عليه السلام، فأتى على قوم يزرعون في يوم ويحصدون في يوم، كلما حصدوا عاد كما كان، فقال: يا جبريل، من هؤلاء؟ قال: هؤلاء المجاهدون في سبيل الله؛ تضاعف لهم الحسنة بسبعمائة ضعف، وما أنفقوا من شيء فهو يخلفه. ثم أتى على قوم تُرضخ رؤوسهم بالصخر، كلما رُضخت عادت كما كانت، ولا يُفَتَّرُ عنهم من ذلك شيء، قال: يا جبريل، من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين تثاقلت رؤوسهم عن الصلاة. ثم أتى على قوم على أدبارهم رقاع وعلى أقبالهم رقاع، يسرحون كما تسرح الأنعام إلى الضريع والزقوم ورضف جهنم، قال: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين لا يؤدون صدقات أموالهم، وما ظلمهم الله وما الله بظلاّم للعبيد. ثم أتى على رجل قد جمع حزمة عظيمة لا يستطيع حملها وهو يريد أن يزيد عليها، قال: يا جبريل، ما هذا؟ قال: هذا رجل من أمتك عليه أمانة الناس لا يستطيع أداءها وهو يريد أن يزيد عليها. ثم أتى على قوم تُقرض شفاهُهُم وألسنتُهُم بمقاريض من حديد، كلما قرضت عادت كما كانت، لا يفتّر عنهم من ذلك شيء، قال: يا جبريل، ما هؤلاء؟ قال: خطباء الفتنة. ثم أتى على جحر صغير يخرج منه ثور عظيم، فيريد الثور أن يدخل من حيث خرج فلا يستطيع، قال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الرجل يتكلم بالكلمة العظيمة فيندم عليها، فيريد أن يردها فلا يستطيع، ثم أتى على وادٍ فوجد ريحًا طيبة ووجد ريح مسك مع صوت، فقال: ما هذا؟ قال: صوت الجنة تقول: يا رب، ائتني بأهلي وبما وعدتني، فقد كثر غرسي وحريري وسندسي وإستبرقي وعبقريي ومرجاني وفضتي وذهبي وأكوابي وصحافي وأباريقي وفواكهي وعسلي ومائي ولبني وخمري، ائتني بما وعدتني، قال: لك كل مسلم ومسلمة ومؤمن ومؤمنة ومن آمن بي وبرسلي وعمل صالحًا ولم يشرك بي شيئًا ولم يتخذ من دوني أندادًا فهو آمن، ومن سألني أعطيته، ومن أقرضني جزيته، ومن توكل عليّ كفيته، إني أنا الله لا إله إلا أنا لا خُلف لميعادي، قد أفلح المؤمنون، تبارك أحسن الخالقين، فقالت: قد رضيت. ثم أتى على وادٍ فسمع صوتًا منكرًا فقال: يا جبريل، ما هذا الصوت؟ قال: هذا صوت جهنم تقول: يا رب، ائتني بأهلي وبما وعدتني، فقد كثرت سلاسلي وأغلالي وسعيري وحميمي وغساقي وغسليني، وقد بعد قعري واشتد حرّي، ائتني بما وعدتني، قال: لك كل مشرك ومشركة وخبيث وخبيثة وكلّ جبار لا يؤمن بيوم الحساب، قالت: رضيت)).