الخطبة الأولى
أما بعد: في هذه الخطبة إن شاء الله تعالى سأذكر ما أمكن من بعض أوصافها وأوصاف أهلها وطعامهم وشرابهم، نسأل الله تعالى أن يجيرنا منها ويجير جميع المؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.
إنَّ حَرَّ نار جهنم لِشِدَّتِهِ يَصْهَر كل ما يُلقى فيه، وإن الاستعار والتأجج في جهنم يزداد باستمرار، قال الله تعالى: مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا. ولإتمام الفائدة أورد الآية من أولها، قال تعالى: وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا [الإسراء: 97]، وقال تعالى: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ [الحج: 19، 20]، وقال تعالى: تَلْفَحُ وُجُوهَهُمْ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ [المؤمنون: 104]، وقال رسول الله : ((ناركم هذه التي يوقد بنو آدم جزءٌ من سبعين جزءًا من حر جهنم))، قالوا: والله، إن كانت لكافيةً يا رسول الله! قال: ((إنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءًا كلهن مثل حرها)).
وأما لونها فهو أشد سوادًا من القار، قال رسول الله : ((أترونها ـ نار جهنم ـ حمراء كناركم هذه؟! لهي أسود من القار))، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: ((أوقد على النار ألف سنة حتى احمرت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت، فهي سوداء كالليل المظلم))، وفي رواية: ((فهي سوداء مظلمة لا يضيء لهبها)) رواه الترمذي وابن ماجة والبيهقي.
وفي صحيح مسلم رحمه الله من رواية أبي هريرة رضي الله عنه عن عمقها وبعد قعرها أنه قال: كنا مع الرسول إذ سمعنا وجبة فقال النبي : ((أتدرون ما هذا؟)) قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: ((هذا حجر أرسله الله في جهنم منذ سبعين خريفًا، فالآن حين انتهى إلى قعرها)). والويل في قوله تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ [المطففين: 1] وقوله: وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ [إبراهيم: 2] ورد تفسيره بأنه وادٍ في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفًا قبل أن يبلغ قعره.
ولقد جاء بيان السلاسل والأغلال والكبول والأنكال، جاء بيان ذلك في عدة سور من القرآن الكريم، قال تعالى: إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلاً وَأَغْلالاً وَسَعِيرًا [الإنسان: 4]، إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيمًا وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا [المزمل: 12، 13]، وقال تعالى: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذْ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ [غافر: 70، 71]، وقوله تعالى: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلا طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِئُونَ [الحاقة: 30-37].
ولقد فسر زيادة العذاب في قوله تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ [النحل: 88] فُسِّرَتْ زيادة العذاب بأنها عقارب تلسعهم، العقرب كالبغلة الموكفة، وورد عن رسول الله قوله: ((إن في النار حيات كأمثال أعناق البخت، تلسع إحداهن اللسعة فيجد حَرَّها سبعين خريفًا، وإن في النار عقارب كأمثال البغال الموكفة، تلسع إحداهن اللسعة فيجد حَمْوَتَهَا أربعين سنة)) رواه أحمد والطبراني وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال: "صحيح الإسناد".
إن لأهل النار مطاعم كثيرة ومشارب، إِذِ الطعامُ والشرابُ من لوازم الحياة، وأهل النار أحياء فيها لا يموتون إذ لو ماتوا لاستراحوا من العناء والعذاب، ولكنهم لا يموتون كما قال تعالى: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء: 56].
ويسألون الموت ويطلبونه ولكن لا يستجاب لهم، جاء طلبهم في القرآن في قوله تعالى: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ [الزخرف: 77]. وقد أخبر تعالى عن عدم موتهم بقوله: لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا [فاطر: 36]،.
ومن طعام أهل النار الزقوم، وهو ثمر يخرج من شجرة تنبت في أصل الجحيم، مذاقه مُرٌّ شديد المرارة، يغص به في الحلق فلا يسوغ ولا ينزل إلا بالماء الحميم، ومن خواصه أنه يغلي في البطن غليان الماء والمهل الذي هو أشد حرارة ومرارة وحنظلاً لها من الماء، قال تعالى: أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ [الصافات: 62-67]، وقال تعالى: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ [الدخان: 43-46].
ومن طعامهم أيضًا الغسلين، وهو ما تجمع من عصارة أهل النار من قيح وصديد وعرق، وما يخرج من فروج الزُّنَاة وما يسيل من لعاب شاربي الخمر في الدنيا والمغتابين والكذابين وقائلي الباطل وشاهدي الزور. ورد ذكر الغسلين في قوله تعالى: فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلا طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِئُونَ [الحاقة: 35-37].
ومن طعامهم أيضًا الضريع، وهو شَوْكٌ مُرٌّ مُتَنَاهٍٍ في المرارة، ينشب في الحلق يسيغه الآكل بالحميم، فهو لا يسمّن آكله ولا يغنيه من جوع، قال تعالى: لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ [الغاشية: 6، 7].
ومن بعض مشارب أهل النار الحميم، وهو ماء حار يجري من عين آنية، بمعنى أن درجة حرارة الماء فيها قد انتهت إلى ما لا مزيد عليها أبدًا، ومن خواص الحميم أنه يُصهر به ما في بطونهم والجلود ويقطّع أمعاءهم، قال تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ [الغاشية: 2-5]، وقال تعالى وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ [محمد: 15]، يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ [الحج: 19، 20].
ومن شرابهم كذلك ماء الصديد، وهو ماءٌ كَدِرٌ يحوي كميات من الصديد يَغُصُّ به شاربُه حتى لا يكاد يسيغه ويعاني منه آلامًا لا يعلم مداها إلا الله تعالى، قال عَزَّ وجَلَّ: وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ [إبراهيم: 15-17].
ومن الشراب أيضًا ماء شبيه بالمهل، إذا أدناه أحدهم من فمه ليشربه شَوَتْ حرارتُه جلدةَ وجْهِهِ، قال تعالى: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا [الكهف: 29].
ومن الآيات التي تجمع بين الطعام والأكل من شجر الزقوم حتى تمتلئ بطونهم والشراب من الماء البالغ نهاية الحرارة الذي يشربون منه ولا يَرْوَوْنَ بل يزيدهم عطشًا كالنِّيَاق العِطَاش التي لا ترتوي أبدًا لإصابتها بذلك المرض ـ ولذلك سُمِّيَتْ بِالْهِيمِ ـ قول الله تعالى: قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنْ الْحَمِيمِ فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ [الواقعة: 49-56].
ومن شرابهم أيضًا ماء من نهر الْغُوطَة، وهو ماء متجمع مما يسيل من فروج الزواني من النساء، عن أبي موسى رضي الله عنه أن النبي قال: ((ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن الخمر، وقاطع الرحم، وعاق والديه ـ وفي رواية: ومصدق بالسحر ـ، ومن مات مدمن الخمر سقاه الله جل وعلا من نهر الغوطة))، قيل: وما نهر الغوطة؟ قال: ((نهر يجري من فروج المومسات يؤذي أهلَ النار ريحُ فروجهن)) رواه أحمد وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال: "صحيح الإسناد". وفي رواية أخرى بإسناد حسن لأحمد وصححها ابن حبان: ((كان حقًا على الله أن يسقيه من طينة الخبال))، قيل: يا رسول الله، وما طينة الخبال؟ قال: ((صديد أهل النار))، وفي لفظ: ((عصارة أهل النار)).
وإنَّ تَفَاوُتَ العذاب بين أهل النار في دار البوار ثابتٌ مقطوعٌ به، وهو تابع لتفاوت أعمالهم وما كسبوا من خير وشر في هذه الحياة الدنيا، عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي قال: ((إن أهون أهل النار عذابًا أبو طالب، وهو منتعل بنعلين يغلي منهما دماغه)) رواه مسلم رحمه الله. وخُفِّفَ عذابُ أبي طالب إلى هذه الدرجة من أجل ما قَدَّمَهُ من خدمات للإسلام ممثلة في شخص الرسول . وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي قال: ((إن أهون أهل النار عذابًا رجل في أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل بالقمقم)) رواه البخاري ومسلم ولفظه: ((إن أهون أهل النار عذابًا من له نعلان وشراكان من نار يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل، ما يرى أن أحدًا أشدُّ منه عذابًا، وإنه لأهونهم عذابًا))، وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه عن النبي قال: ((منهم من تأخذه النار إلى كعبيه، ومنهم تأخذه النار إلى ركبتيه، ومنهم من تأخذه النار إلى حجزته، ومنهم من تأخذه النار إلى عنقه، ومنهم من تأخذه النار إلى ترقوته)).
أيها المسلمون، مَنْ مِنَّا يستطيع أن يتحمل اللهب المتصاعد من عود الثقاب من الكبريت؟! بل من منا يستطيع أكثر من ذلك يعرض يده أو رجله أو أي جزء من جسمه لأفران البتوجاز أو المخابز أو أي نار أخرى أو يستطيع أن يسكب على جسمه ماءً حارًا من السَّخَّان أو ماءً مغليًّا على النار؟! فإذا كنا لا نستطيع ذلك ولن نستطيع لأن أجسامنا لن تقوى على النار، فعلينا أن نعمل على إبعاد أنفسنا وأهلينا ومن وُلِّينَا أَمْرَهُ عن نار الآخرة كما قال تعالى: أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6].
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فالعويل والبكاء من لوازم معاناة المخاوف والآلام ومقاساة الشدائد والأهوال، وأهل دار البوار وسكانها لا يبرحون يتجرعون الغصص ويتذوّقون مُرَّ العذاب، حزنهم دائم، وعذابهم لا ينقطع ولا يخفّ، ومن هنا لا يُستغرب منهم البكاء والعويل، ولا يُستنكر عليهم الصياح والنواح، فهم يتضاغون فيها ويصطرخون، يدعون بالويل والحسرة والثبور، قال الله تعالى: وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا [الفرقان: 13] أي: هلاكًا حيث يدعون على أنفسهم بالهلاك، فيقال لهم: لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا [الفرقان: 14]، وقال تعالى: وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر: 37]، وقال تعالى: لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ [الأنبياء: 100]، فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [هود: 106، 107]، وقال تعالى: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الزمر: 55، 56]، وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلاً لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً [الفرقان: 27-29].
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((يا أيها الناس، ابْكُوا، فإن لم تبكوا فتباكوا، فإن أهل النار يبكون في النار حتى تسيل دموعهم في خدودهم كأنها جداول حتى تنقطع الدموع، فيسيل ـ يعني الدم ـ فَيُقْرِح العيون)) رواه ابن ماجة وأبو يعلى والحاكم. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: إن أهل النار يدعون مالكًا ـ أي: خازن جهنم ـ فلا يجيبهم أربعين عامًا، ثم يقول: إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ [الزخرف: 77]، ثم يدعون ربهم فيقولون: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ [المؤمنون: 107]، فلا يجيبهم مثل الدنيا ثم يقول: اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون: 108]، ثم يَيْأَس القوم فما هو إلا الزفير والشهيق، تشبه أصواتهم أصوات الحمير، أولها شهيق وآخرها زفير، قال تعالى: وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمْ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ إِنِّي جَزَيْتُهُمْ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمْ الْفَائِزُونَ [المؤمنون: 103-111]، وقال عز وجل: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمْ الظَّالِمِينَ وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [الزخرف: 74-80]، وقال تعالى: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [الحج: 19-22].
فيا أيها المسلمون، لنتذكر هذه الأيام بمناسبة الامتحانات الدنيوية للأولاد ذكورًا وإناثًا، لنتذكر كيف الإعداد والاهتمام من أجل امتحانات دنيوية ومن أجل الحصول على النجاح والفوز، كيف يكون الاستعداد من قبل الآباء والأمهات والأولاد ذكورًا وإناثًا؟! فما بالنا ولماذا لا نعد العدة في فترة الامتحان والاختبار الطويلة في زمن المهلة وهي عمر كل إنسان منا في هذه الحياة الدنيا سواء طال عمره أو قصر؟! وهي مدة كافية لأداء الامتحان من أجل الفوز بالجنة والنجاة من النار. فعلينا أن نغتنم الفرصة والمهلة التي أعطانا الله إياها في هذه الحياة الدنيا، وعلينا أن ننتبه ونفيق من غفلتنا ونتذكر ونمعن النظر ونتأمل ونحن نتلو كتاب الله أو تتلى علينا آياته، ولنتذكر الموت ويوم الجزاء والحساب، ولنتذكر الجنة والنار، نقرأ الآيات المشتملة على النعيم الدائم في الجنة وأوصاف ذلك جملة وتفصيلاً فيما ورد في القرآن الكريم وفي أحاديث الرسول ، وكذلك ما ورد عن النار في القرآن الكريم والسنة النبوية. علينا أن نتأمل ونتفكر ونتعظ ونفرق بين النعيم الدائم في الجنة وبين اللذة العاجلة في الحياة الدنيا، اللذة المحرمة التي يرى صاحبها أنه استمتع بها لدقائق ولحظات لا تطول وتعقبها ساعات الحسرة والندامة في الدنيا قبل الآخرة، وإلى أي مدى تستمر معه تلك النشوة والفرح بارتكاب ذلك المحرم؟! لو تدبر وتأمل ذلك المسكين حاله وأفاق من غفلته لأدرك الفرق الشاسع الذي لا مقارنة ولا تقارب معه بين هذا النتن والعفن وبين النعيم الأبدي السرمدي، ولو علم عواقب اتِّبَاعه للشهوات وارتكاب المحرمات في الدنيا لو علم مصيره في الآخرة إن مات على ذلك ما هو العقاب الذي سيجرُّه على نفسه لابتعد وانزجر وكف نفسه عن إعطائها شهواتها وما تميل إليه وألجمها بزمام التقوى وحبسها عما يوردها المهالك وسجنها ـ خاصة عندما يزين له الشهوةَ شياطينُ الإنس والجن ـ في سجن لا أغلال فيه ولا آصار، بل هو تقرب إلى الحي القيوم بكف النفس عن المعاصي والآثام لنيل الرضا والفوز بالجنات والبعد عن النيران، يتذكر دائمًا أن الحياة الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، ويفعل الأسباب المنجية له من الهلاك والخسران طاعة لله ومحبة، ويطمع في رحمة الله ويرجوها، ويخاف من عقاب الله، ويدعو الله تعالى بحسن الخاتمة والفوز بالجنة والنجاة من النار، وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ [الرعد: 26]، وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران: 185].