الخطبة الأولى
أما بعد:
فيا عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله والاستعداد ليوم عظيم، تذهل كل مرضعة فيه عما أرضعت و تضع كل ذات حمل حملها.
إخواني في الله، مر معنا في الخطبة الماضية حديث عن الجنة التي هي نزل الكرامة والرحمة والغفران، وفي هذه الخطبة نعرج على النار التي أوقد الله عليها ألف عام حتى ابيضت وألف عام حتى احمرت وألف عام حتى اسودت فهي سوداء مظلمة ـ أجارنا الله وإياكم منها ـ.
إنها دار الذل والهوان، والعذاب والخذلان، دار الشهيق والزفرات، والأنين والعبرات، دار أهلها أهل البؤس والشقاء، والندامة والبكاء، والأغلال تجمع بين أيديهم وأعناقهم، والنار تضطرم من تحتهم ومن فوقهم، شرابهم من حميم يصهروا به ما في بطونهم والجلود، وأكلهم شجر الزقوم كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم، يدعون على أنفسهم بالموت فلا يجابون، ويسألون ربهم الخروج منها فلا يكلمون، كيف لو أبصرتهم وهم يسحبون فيها على وجوههم وهم لا يبصرون، أم كيف لو سمعت صراخهم وعويلهم وهم لا يسمعون: فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدْخِلَ ٱلْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـٰعُ ٱلْغُرُورِ [آل عمران:185].
وحينما يجاء بالموت على صورة كبش أملح فيذبح، تزداد حسرة أهل النار وينقطع أملهم في الموت بعد أن كانوا في الدنيا لا يحبونه، وَيَوْمَ يَعَضُّ ٱلظَّـٰلِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يٰلَيْتَنِى ٱتَّخَذْتُ مَعَ ٱلرَّسُولِ سَبِيلاً يٰوَيْلَتَا لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً لَّقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ ٱلذّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِى وَكَانَ ٱلشَّيْطَـٰنُ لِلإِنْسَـٰنِ خَذُولاً [الفرقان:27-29].
وعن أبي هريرة قال: قال النبي : ((لا يدخل أحد الجنة إلا أري مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرا، ولا يدخل النار أحده إلا أرى مقعده من الجنة لو أحسن ليكون عليه حسرة)) رواه البخاري[1].
فتوضع الأغلال في أعناقهم ويجمع بعضهم إلى بعض نكاية لهم وزيادة في العذاب، أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ وَأُوْلَئِكَ ٱلاْغْلَـٰلُ فِى أَعْنَـٰقِهِمْ [الرعد:5]، وَتَرَى ٱلْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِى ٱلاْصْفَادِ [إبراهيم:49].
ويلبسون ثيابا من نار وإن اشتهوا الماء فإنهم يسقون من ماء صديد يتجرعونه ولا يكادون يسيغونه، هَـٰذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَءاخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوٰجٌ [ص:57، 58]، عن أبي أمامة عن النبي : ((يقرب إليه فيكرهه، فإذا أدني منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه، فإذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره))، وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَاء كَٱلْمُهْلِ يَشْوِى ٱلْوجُوهَ بِئْسَ ٱلشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا[2] [الكهف:29]، وَنَادَىٰ أَصْحَـٰبُ ٱلنَّارِ أَصْحَـٰبَ ٱلْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ ٱلْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ قَالُواْ إِنَّ ٱللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ [الأعراف:50]، وإذا جاعوا أكلوا من شجرة الزقوم التي لا أقبح ولا أبشع من منظرها مع ما هي عليه من سوء الطعم والريح والطبع، فَإِنَّهُمْ لاَكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا ٱلْبُطُونَ [الصافات:66]، إِنَّ شَجَرَةَ ٱلزَّقُّومِ طَعَامُ ٱلأَثِيمِ كَٱلْمُهْلِ يَغْلِى فِى ٱلْبُطُونِ كَغَلْىِ ٱلْحَمِيمِ [الدخان:43-45]، قال : ((لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم فكيف بمن يكون طعامه))[3].
ومن هذا الطعام والشراب واللباس الذي هو من النار يصف الله ـ تعالى ـ شدة حرها: كَلاَّ إِنَّهَا لَظَىٰ نَزَّاعَةً لّلشَّوَىٰ تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّىٰ [المعارج:15-17]، أي إنها لشدة حرها تبري الجلد واللحم عن العظيم وتنزعه ثم يبدل بعد ذلك وهي أيضا من شدة حرها: لاَ تُبْقِى وَلاَ تَذَرُ [المدثر:28]، أي تأكل لحوم أصحابها وعروقهم وعصبتهم وجلودهم، قال : ((ناركم جزء من سبعين جزءا من نار جهنم)) قيل: يا رسول الله إن كانت لكافية، قال: ((فضلت عليهن بتسعة وستين جزءا كلهن مثل حرها))[4].
يخلق الله الكافرين غلاظ الأجسام نكاية بهم، قال رسول الله : ((ضرس الكافر أو ناب الكافر مثل أحد، وغلظ جلده مسيرة ثلاث))[5] وقال : ((ما بين منكبي الكافر في النار مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع))[6].
وهذه النار تمتلئ بالعصاة والكافرين: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ ٱمْتَلاَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ [ق:30]، إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ [الأنبياء:98]. عن أبي هريرة قال: كنا مع رسول الله إذ سمع وجبة فقال النبي : ((أتدرون ما هذا، قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا حجر رمي به في النار منذ سبعين خريفا فهو يهوي في النار الآن حتى انتهى إلى قعرها))[7].
وتحيط به النار من كل مكان، فلا يستطيعون الفرار أو الاختباء: لَهُمْ مّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مّنَ ٱلنَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [الزمر:16]، لَوْ يَعْلَمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ ٱلنَّارَ وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ [الأنبياء:39]. وقال : ((إن أهون أهل النار عذابا من له فعلان وشراكان من نار يغلي منها دماغه كما يغلي المرجل (القدر) ما يرى أن أحدا أشد عذابا منها وإنه لأهونهم عذابا))[8] وقال : ((منهم من تأخذه النار إلى كعبيه ومنهم من تأخذه النار إلى حجرته ومنهم من تأخذه النار إلى ترقوته))[9]. والحجزة: معقد الإزرار، والترقوة: العظم المشرف من النحر.
لقد صب عليهم العذاب صبا، وذاقوا مس سقر، وفي ذلك المكان المرعب المخيف ما لهم من ناصرين ولا صديق حميم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: هَـٰذِهِ جَهَنَّمُ ٱلَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ % ٱصْلَوْهَا ٱلْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ ٱلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوٰهِهِمْ وَتُكَلّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [يس:63-65].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونسأله ـ سبحانه ـ أن يصرف عنا عذاب جهنم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل من كل ذنب...
الخطبة الثانية
الحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، خلق الإنسان في كبد، فأخذ طريق الغواية وأخذ سبيل الرشد.
والصلاة والسلام على نبينا محمد الذي ذكر النار يوما فأشاح بوجهه فتعوذ منها، ثم ذكر النار فأشاح بوجهه فتعوذ منها ثم قال: ((اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة))[1].
عباد الله، إن أهل النار في عذاب دائم لا ينقطع ولا يخفف، إنهم يسألون ربهم العودة إلى الدنيا ليعملوا صالحا، يسألونه بقلوب منكسرة يعتصرها الحزن والأسى: وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى ٱلنَّارِ فَقَالُواْ يٰلَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذّبَ بِـئَايَـٰتِ رَبّنَا وَنَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ [الأنعام:27]، قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَـٰلِمُونَ % قَالَ ٱخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ [المؤمنون:106-108].
ثم يسألون الموت والراحة من هذا العذاب، ولكن هيهات وَنَادَوْاْ يٰمَـٰلِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّـٰكِثُونَ [الزخرف:77]، وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضَىٰ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مّنْ عَذَابِهَا [فاطر:36].
ويسألون تخفيف العذاب عنهم ولو يوما واحدا كي يستريحوا فلا يجابون ولا يخفف عنهم: وَقَالَ ٱلَّذِينَ فِى ٱلنَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ يُخَفّفْ عَنَّا يَوْماً مّنَ ٱلْعَذَابِ قَالُواْ أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِٱلْبَيّنَـٰتِ قَالُواْ بَلَىٰ قَالُواْ فَٱدْعُواْ وَمَا دُعَاء ٱلْكَـٰفِرِينَ إِلاَّ فِى ضَلَـٰلٍ [غافر:49، 50]، قال : ((إن أهل النار ليبكون حتى لو أجريت السفن دموعهم لجرت وإنهم ليبكون الدم))[2].
ثم ينادي إبليس ـ عليه لعنة الله ـ، الذي أقسم أن لا يطأ النار وحده، لكن معه أتباع وأمم كثير قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ [ص:82، 83]، وَقَالَ ٱلشَّيْطَـٰنُ لَمَّا قُضِىَ ٱلأمْرُ إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ ٱلْحَقّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَـٰنٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِى فَلاَ تَلُومُونِى وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِىَّ إِنّى كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ ٱلظَّـٰلِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [إبراهيم:22].
لقد زين الشيطان أعمالهم القبيحة في الدنيا وهاهو يتبرأ منهم، لقد بدا للناس في صورة المحب المشفق في الدنيا الذي يريد لهم الخير ويتمنى لهم، يخلفهم ما وعدهم من الكذب أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يبَنِى ءادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ ٱلشَّيطَـٰنَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنِ ٱعْبُدُونِى هَـٰذَا صِرٰطٌ مُّسْتَقِيمٌ [يس:60، 61].
إن سكانها هم الكفرة والمجرمون والطغاة والمتكبرون، وكل من كذب الرسل من الأولين والآخرين، كفرعون وقارون وهامان وأبي جهل وأبي لهب، إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ ٱلرٌّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ [ص:14].
ثم يتلاوم أهل النار ويلعن بعضهم بعضا ويتبرأ بعضهم من بعض، ويقول الضعفاء أنتم الذين حرفتمونا عن الهدى، ويقول الآخرون بل أنتم اتبعتمونا ولم نصرفكم عن الهدى، كَذٰلِكَ يُرِيهِمُ ٱللَّهُ أَعْمَـٰلَهُمْ حَسَرٰتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَـٰرِجِينَ مِنَ ٱلنَّارِ [البقرة:167]، يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِى ٱلنَّارِ يَقُولُونَ يٰلَيْتَنَا أَطَعْنَا ٱللَّهَ وَأَطَعْنَا ٱلرَّسُولاَ وَقَالُواْ رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا ٱلسَّبِيلاْ رَبَّنَا ءاتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ ٱلْعَذَابِ وَٱلْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً [الأحزاب:66-68]. لقد ندموا أشد الندم ولكن ولات ساعة مندم، وعلموا أن الحق لله وأن القوة لله جميعا، ولكن بعد انقضاء المهلة، إنهم سوف يستمر معهم العذاب خالدين مخلدين في نار جهنم فَأَمَّا ٱلَّذِينَ شَقُواْ فَفِى ٱلنَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَـٰلِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَـٰوٰتُ وَٱلاْرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ [هود:106، 107].
عباد الله، إنه يجب علينا محاسبة أنفسنا ومراجعتها، إنها دعوة إلى إخواننا الذين غشيهم من ظلمة المعصية ما غشيهم أن يراجعوا أعمالهم، ويعودوا إلى ربهم من قبل أن تأتي الساعة التي تحاكم الأنفس، إنها دعوة إلى الأباء والأبناء، إلى الشباب والشابات، إلى البنات والأمهات أن نسارع جميعا إلى التوبة إلى الله ـ تعالى ـ، وأن يكون في هذه الدنيا بين خوف ورجاء، خوف من عذاب الله وسخطه ورجاء فيما عنده ـ سبحانه ـ إنه يجب علينا من هذه اللحظة التوبة إلى الله والاستغفار والندم على التفريط في جنب الله ـ تعالى ـ ولذلك كان من دعاء عباد الرحمن: رَبَّنَا ٱصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً [الفرقان:65، 66].
ألا وصلوا وسلموا على الهادي البشير والسراج المنير...