الخطبة الأولى
أما بعد: فقد خلق الله الناس من ذكر وأنثى وجعلهم شعوبًا وقبائل ليتعارفوا ويتآلفوا ويتعاونوا على البر والتقوى ويدفعوا الإثم والعدوان عن بعضهم بعضًا، ولقد أمر الله عباده المؤمنين أن يكونوا إخوة متحابين تسود بينهم علامات العطف والتراحم، فلا يعتدي كبير على صغير، ولا يظلم قَوِيٌّ ضعيفًا، ولا يهضم متسلطٌ حقوقَ الآخرين. ولقد حرّم الظلم على عباده كما حرمه على نفسه جل وعلا، كما ورد في الحديث القدسي: ((قال الله تعالى: يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا)) رواه الإمام مسلم رحمه الله.
فالظلم مَرَاتِعُهُ وخيمة وعواقبه أليمة، وما تظالم قوم وحصل فيما بينهم عدوان وطغيان إلا حلّ بهم الهلاك والخسران وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون. وقد ذكر الله عز وجل في القرآن العظيم أحوال الأمم الغابرة حينما طَغَتْ وبَغَتْ وظَلَمَ بعضُها بعضًا وفَسَقَتْ عن أمر ربها ورسله كيف عذبها عذابًا نكرًا وأخذها أخذًا أليمًا جزاء فعلها الظالم وعدولها وخروجها عن أمر ربها، قال تعالى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود: 102]، وقال عز وجل: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا [ الطلاق: 8-10].
الظلم هو مجاوزة الحدود التي شرعها الله عز وجل، حيث يؤدّي ذلك إلى التجاوز والتعدي والتطاول على الحقوق والحرمات التي شرع الله ورسوله احترامَها وعدمَ التعدي عليها وتجاوز حدودها. إن الظلم لا يصدر إلا عن شخصيات حاقدة لئيمة، رديئة الطبع، خبيثة النفس، منتقمة لأحقاد دفينة في سويداء قلوبها، حيث قد ضعف فيها الوازع الديني والخلقي، وقست فيها القلوبُ، فلم تخشَ لله مقامًا ولا انتقامًا.
والظلم في حقيقته وواقعه تَحَدٍّ لله العلي القدير، وتطاول على أحكامه التي شرعها لحفظ الكرامة وتوفير العدالة وتوطيد الأمن والاستقرار، وهو تجاوز للحق إلى الباطل، وترك للعدل، واتباع للهوى، وتخبط في طريق التسلط والقهر والاعتساف، ولو فكّر العاقل مليًا وراجع نفسه لعلم أن الظلم أَمْرٌ تنكره العقول السليمة وتَمُجُّهُ النفوسُ الكريمة ويَأْبَاهُ الْخَلْقُ جميعُهم؛ لأن الظلم يُشَوِّهُ الحياةَ ويعكِّر صَفْوَهَا ويُحِيلُها إلى جحيم مُتْرَعٍ بالألم والشقاء، والعباد لا يطيقون للظلم احتمالاً، ولا يستطيعون عليه صبرًا؛ لذلك فهم يلجؤون إلى الله بِذُلِّهِمْ وانكسارهم ويَجْأَرُونَ إليه بدعائهم ويستنجدون بقوته وجبروته من ظلم الظالم وطغيانه، فتصعد دعواتهم تخترق السماوات العلا، فيقسم الله بعزته وجلاله أنه سينصر المظلوم إن عاجلاً أو آجلاً، قال رسول الله لمعاذ بن جبل رضي الله عنه عندما بعثه لليمن وأوصاه بأمور ومنها قوله : ((واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)) رواه البخاري ومسلم، وقال : ((ثلاثة لا تُرَدُّ دعوتُهم: الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم، يرفعها الله فوق الغمام، ويفتح لها أبواب السماء، ويقول الرب: وعزتي وجلالي، لأنصرنك ولو بعد حين)) رواه الترمذي وابن ماجة والطبراني، وقال : ((ثلاث دعوات مستجابات: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده)) رواه الترمذي واللفظ له والبخاري وابن ماجة والطبراني رحمهم الله.
أما الظالم فإن ظلمه يعود عليه بشرِّ العواقب في الدنيا والآخرة، ويكون ظلمه ظلمات عليه يوم القيامة، قال رسول الله : ((اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة)) رواه البخاري ومسلم، وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)) ثم قرأ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود: 102] رواه البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى.
وليعلم المسلم أن مما يجب عليه نحو أخيه المسلم دفع الظلم عنه إذا رآه مظلومًا ويقف ضدّ الظالم مهما كانت منزلته ومنصبه ومرتبته، وذلك بحسب مقدرة كل شخص ومكانته، فإن ذلك مما أوجبه الإسلام لتحقيق العدالة ولكي يظهر العدل وينتصر الحق ويقمع الجور والظلم، وإنْ لمْ يكنْ ذلك فعندها تحل النقمة والعذاب من الله عز وجل، قال رسول الله : ((انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا)) قال: أنصره مظلومًا، فكيف أنصره ظالمًا؟! قال: ((تحجزه عن ظلمه فذلك نصره))، وفي رواية: قالوا: يا رسول الله، هذا ننصره مظلومًا، فكيف ننصره ظالمًا؟! قال: ((تأخذ فوق يده)) رواه البخاري رحمه الله، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((لا يقفنَّ أحدُكم موقفًا يُقتل فيه رجل ظلمًا، فإن اللعنة تنزل على من حضر حين لم يدفعوا عنه، ولا يقفنّ أحدكم موقفًا يضرب فيه رجل ظلمًا، فإن اللعنة تنزل على من حضره حين لم يدفعوا عنه)) رواه الطبراني والبيهقي بإسناد حسن.
وعلى المسلم أن يرجع إلى كتاب الله وسنة رسوله عندما تحلُّ به أيُّ بَلِيَّةٍ ومَظْلَمَةٍ وفتنة من فتن الدنيا ليجد الأنس والراحة والطمأنينة وينشرح صدره برجوعه وإنابته وتضرعه إلى الله عز وجل العزيز المقتدر، وأنه سوف يقتص له من الظالم في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، يوم لا ينفع الظالمَ طغيانُه وظلمُه وتَجَبُّرُهُ وقَهْرُهُ لعباد الله، يوم الحسرة والندامة، قال تعالى: يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غافر: 52]. فعلى المظلوم أن يستشعر أنَّ اللهَ نَاصِرُهُ ولو بعد حين، وأنه ليس بغافل سبحانه عما يعمله الظالمون، وإنما يؤخرهم ويملي لهم حتى إذا أخذهم لم يُفْلِتْهُمْ.
وليعلم المسلم أن في مظلمته وتحمله للظلم من الظالم خيرًا له، وعليه أيضًا أن يعلم علم اليقين بأن حقه سوف يُقَادُ له من الظالم يوم القيامة، فعليه أن يصبر ويحتسب ليكون خيرًا له، وإن عاقب بمثل ما عوقب به فلا بأس عليه، ولكن الصبر والعفو أفضل وأرفع للدرجات في الدنيا والآخرة بإذن الله عز وجل، قال الله جل جلاله: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلَمَنْ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [الشورى: 39-43]، وقال تعالى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ [النحل: 126].
وسوف يكون القصاص العادل وتأدية الحقوق من الحسنات أَخْذًا من الظالم وإعطاءً للمظلوم إضافة لرصيده وزيادة في الميزان ووضعًا من السيئات التي على المظلوم، حيث تطرح في ميزان الظالم إذا لم تكن له حسنات، قال رسول الله : ((من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أُخِذَ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه)) رواه البخاري، وقال رسول الله : ((من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة))، فقال له رجل: وإن كان شيئًا يسيرًا يا رسول الله؟ قال: ((وإن كان قضيبًا من أراك)) رواه مسلم، وقال : ((من ظلم قيد شبر من الأرض طوّقه من سبع أرضين)) رواه البخاري ومسلم. قال تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ [إبراهيم: 42، 43]. قال : ((لتؤدُّن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الْجَلْحَاء من الشاة الْقَرْنَاء)) رواه مسلم.
أيها المسلمون، يجب علينا الحذر والابتعاد عن الظلم لعباد الله في شتى صوره وأشكاله، وعلينا أن نجتنب الدخول على الظلمة ومخالطتهم ومساعدتهم ومداهنتهم؛ لئلا يحل بنا العذاب، بل يجب علينا أن نبغضهم ونعاديهم لله عز وجل، قال تعالى: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ [هود: 113]، ويقول تعالى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ [الصافات: 22-24]، قيل في معنى أزواجهم أي: أمثالهم وأشباههم وأتباعهم من أعوان الظلمة. وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء: 227].
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، يبسط الرحمة على عباده ويعفو عن السيئات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فإنَّ أنواعَ الظلمِ كثيرةٌ وأساليبَه عديدةٌ، فمن الظلم أَكْلُ أموال الناس بالباطل وأخذُها ظلمًا وظلمُ الناس بالضرب والشتم والتعدي والاستطالة بالكلام البذيء والفاحش والتطاول على الضعفاء وتعذيبهم، والتطاول كذلك على حرمات الناس وأعراضهم والنيل من أشخاصهم بالجرح والقذف والبهتان والحطّ من قدرهم ومكانتهم. وأظلم الناس لنفسه ولغيره ذلك الذي لا عمل له إلا أعراض الناس، ويسعى بالفساد ويبغيهم الفتنة ويتربص بهم دوائر السوء، حتى إذا حانت له الفرصة هَبَّ مسرعًا منتقمًا ليوقع الأذى بغيره غيرَ عَابِئٍ بالنتائج. وأظلم من ذلك من يتتبع عورات المسلمين وينشرُ قَالَةَ السوء في المجتمع ويحب أن تشيعَ الفاحشةُ في الذين آمنوا وتَعُمَّ الرذيلةُ فلا يبقى خلق ولا دين. ومن الظلم الكبير ظلمُ الإنسان لنفسه بحملها على المعاصي وزَجِّهَا في غِمَارِ الآثام والموبقات وترك الحبل لها على الغارب تسرح في مراتع الهلكة والخسران التي قد توصلها إلى جحود النعم أو إلى الشرك، قال تعالى: إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم: 34]، وقال تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [ لقمان: 13].
فلنتق الله ونجعل الوازع الديني نصب أعيننا، ولنعمل بأوامر ديننا، ولْنَسِرْ على هدي نبينا محمد عليه الصلاة والسلام. ورد أن النبي قال: ((خمسة غَضِبَ الله عليهم، إن شاء أمضى غضبه عليهم في الدنيا وإلا أمر بهم في الآخرة إلى النار: أمير قوم يأخذ حقه من رعيته ولا ينصفهم من نفسه ولا يدفع الظلم عنهم، وزعيم قوم يطيعونه ولا يساوي بين القوي والضعيف ويتكلم بالهوى، ورجل لا يأمر أهله وولده بطاعة الله ولا يعلمهم أمر دينهم، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه العمل ولم يوفه أجرته، ورجل ظلم امرأة صداقها)).
والظلم ليس مقصورًا على ظلم الأفراد بعضهم بعضًا في الأُسَرِ والعوائل، بل هو أعم وأشمل، ابتداءً من الظلم الحاصل في البيوت بين الأولاد وآبائهم وأمهاتهم وبين الأزواج ومع مَخْدُومِيهِمْ والعاملين معهم، وبين الجيران، إلى أنْ يمتدَّ ويمرَّ بالأحياء والحارات في المدن وفي القرى المجاورة لبعضها وفي القبائل فيما بينها، حتى يصل إلى الدول المتجاورة والبعيدة عن بعضها، إلى أن ينتهي الظلم إلى عُصْبَةِ الأمم المسماة بالأمم المتحدة عندما تظلم بمجموعها دولةً من الدول أو تَسْكُتَ وتَغُضَّ الطَّرْفَ عن دولة أو اثنتين أو أكثر عندما تطغى وتتجبر ضد دولة أو شعب من الشعوب أو أقلية كما هو مشاهد الآن، سواء من قبل الدول الكبيرة ضد دول وشعوب معينة، أو مساعدتها لدول الطغيان والظلم، أو السكوت والوقوف موقف المتفرج عندما يحصل الظلم بين بعض البلدان، أو الْكَيْل بِمِكْيَالَيْنِ عندما يقفون ضد دولة معينة لأنها ظلمتْ أَقَلِّيَّةً أو مجموعة من شعبها أو مع جيرانها من الدول، ذلك الوقوف فيما يظهر للناس بأنه قمع للظالم ووقوف مع المظلوم، ولكنه في كثير من الأحيان إنما هو نَصْرٌ وقيامٌ مع شعب أو عِرْقٍ مُعَيَّنٍ يربطه بتلك الدول الكبيرة رابطة الدين، وهذا هو الواضح من الكيل بمكيالين عندما يقومون بكل قُوَاهُمْ في هذا الجانب، ثم يغضّون الطرف ويصرفون الأنظار ويشغلون العالم بأمور أخرى عندما تأتي المطالبة بالعدل والوقوف ضد الظالم فيما يجري من قبل اليهود ـ تلك الدولة المسماة بإسرائيل ـ ضد الشعب الفلسطيني، وما يراه العالم ويشاهدونه عبر القنوات إنما هو جزء يسير من الممارسات الظالمة لذلك الشعب المظلوم والمغلوب على أمره، هذه المواقف الظالمة من الدول مجتمعة مع تلك الدولة الغاشمة الظالمة التي تمارس ظُلْمَهَا تحت حِمَايَةٍ أُمَمِيَّةٍ وسكوتٍ عالميٍّ ضد الظلم وأهله الممارسين له يجعل عواطف الناس في جميع بقاع الأرض على اختلاف مللهم ونحلهم تتحرّك ضدّ الْمُمَارِسِ للظلم أو السَّاكِتِ عن الظالم أو الْمُسَاعِدِ له، وكل ذلك مكشوف أمام البشر جميعًا ويعرفون ذلك إلى جانب السكوت والْوُجُومِ العالمي عن امتلاك دولة إسرائيل للأسلحة التدميرية الشاملة النووية والكيميائية، وعدم محاسبتها على أي شيء من ذلك أو الإشارة إليها بالبنان فضلاً عن الإفصاح بأي كلام قليل أو كثير، وفي المقابل تلك الحملات المتواصلة لتجريد الدول المنتمية للإسلام من تلك المواد التي قد تستخدم في أغراض سلمية، أما تلك التي تمتلكها الدولة الصهيونية فهي واضحة للعيان في أنها قنابل موقوتة للتدمير الشامل للشرق الأوسط، فأمام هذا الظلم العالمي ابتداءً من الدولة اليهودية إلى تلك الدول الكبيرة الساكتة والمؤيدة لها وانتهاءً بتلك الدول الصغيرة المشاركة في عصبة الأمم والتي لا تستطيع أنْ تُفْصِحَ عما يدور بداخلها من التعبير عن الظلم والوقوف ضده أمام هذه المواقف الظالمة سوف يزداد اشتعال النفوس والقلوب ضد الظلم والظالمين، ولن تهدأ نفوس آلاف الملايين من البشر من جميع الأديان في الأرض كلها إلا بتحقيق العدل والوقوف صفًا واحدًا ضد الظالمين مع عدم التمييز في ذلك بالعدل والإنصاف من دول وشعوب ظالمة وغَضِّ الطرف عن أخرى، في جانب آخر فإن هذا السلوك العالمي لنْ يُفْضِيَ أبدًا إلى تَهْدِئَةِ الأوضاع العالمية، بل يزيد الحروب اشتعالاً وإيقادًا إلى أن يشاء الله عز وجل، قال رسول الله : ((إذا رأيتم أمتي تهاب الظالم أن تقول له: أنت ظالم فقد تُودِّعَ منهم)) رواه البخاري ومسلم، وقال : ((أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر)) أو: ((أمير جائر)) رواه النسائي والحاكم وأبو داود والترمذي.
فإذا كان من الواجب على المسلم بمفرده نصرة المظلوم والوقوف ضد الظالم كل حسب طاقته ويتعين ذلك على الجماعات كما هو معلوم من مجموع الأدلة من الآيات والأحاديث فإنه في حق الدولة المسلمة أَوْجَبُ وأَلْزَمُ، وهذا معلوم مما سبق في الحديث من قَوْلِ رسول الله : ((انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا)) وتَفْسِيرِهِ لهذه النصرة للظالم وذلك بمنعه وردعه عن الاستمرار في طغيانه على غيره، فإذا كان هذا في حق الأفراد فهو في حق الجماعات والطوائف والقبائل والدول أيضًا كما جاء في صريح القرآن الكريم بإجراء الصلح بين الطائفتين المقتتلتين من المؤمنين، وفي حالة البغي والطغيان والظلم من قبل طائفة ظالمة فيجب على المؤمنين الوقوف إلى جانب الفئة المظلومة حتى ترجع تلك الظالمة إلى الطريق الصحيح ومعرفة العدل والحق والعمل والالتزام بذلك، قال الله تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات: 9، 10].
ولو أن الأمة المسلمة أخذت بالآيات والأحاديث السابقة وبهذين الحديثين التاليين في الأخذ على أيدي الظالمين أيًا كانوا لاستقامت أمورها، وسوف تكون الأمور في أحسن حال إذا أخذت به عصبة الأمم لأنها مشمولة بذلك في كلمة الناس الواردة في الحديث التالي، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: يا أيها الناس، إنكم تَقْرَؤون هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة: 105]، وإني سمعت رسول الله يقول: ((إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه)) رواه أبو داود والترمذي والنسائي، وقال رسول الله في آخر الحديث الذي رواه ابن مسعود رضي الله عنه وبعد ذكر الآيات من الآية (77) إلى الآية (81) من سورة المائدة قال رسول الله : ((كلا والله، لَتَأْمُرُنَّ بالمعروف ولتنهَوُنَّ عن المنكر ولتأخُذُنَّ على يد الظالم ولتأطرنّه على الحق أطرًا ولتقصرنه على الحق قصرًا أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعنكم كما لعنهم)) رواه أبو داود والترمذي.
وهذا الظلم العام وانتشاره من علامات الساعة التي أخبر عنها رسولنا محمد ، وسوف يكون العدل بإذن الله في السنين الأخيرة من الحياة الدنيا وقبل نزول عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام في زمن المهدي الحقيقي الذي أخبر عنه رسولنا محمد ، وليس المهدي المزعوم لدى بعض الطوائف، وقد أوردت خطبة كاملة عنه في علامات الساعة.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله...