أبو أسامة Admin
عدد الرسائل : 138 تاريخ التسجيل : 16/08/2008
| موضوع: الـــحـــســـد داء عـــضـــال .....؟؟؟؟ الأربعاء أغسطس 20, 2008 9:23 am | |
| الخطبة الأولى
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل، فهي الوصية النبوية الجامعة النافعة، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران: 102]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر: 1].
عباد الله، إن مما انتشر في هذا الزمن بين أوساط كثير من الناس على اختلاف أصنافهم داء عضالاً ينخر في جسد الأمة ويهدّد مبادئ الرحمة والشفقة والمودة، ويلغي أبسط أمور الإنسانية، ويعتم الشفافية الصادقة، ويُغِير الصدور بصنوف من الأمنيات الحاقدة، فيا عباد الله، إن هذا الداءُ لا يفرق صاحبه بين قريب وبعيد، فلكلٍّ في نظره عقبات في طريقه نحو تفرّده بالأنانية وسعيه باحتكار كل ما فيه نفع له وحده، وإن سألتموني: ما هذا الداء؟ قلت لكم: الحسد الحسد؛ يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، فإنه والله لخلق ذميم ونقص في العقل والدين، ويا للعجب! أكُلّ تلك المكاييل والأحقاد تكال لشخص مسلم؟! ألم يسمعوا وصف الله سبحانه في تواد المؤمنين بعضهم لبعض بأنهم أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة: 54]؟! ألم يعوا قول الرسول : ((لا يزال الناس بخير ما لم يتحاسدوا))؟!
عباد الله، إن الحسد صفة للمنافقين وتشبّه باليهود الغادرين، فالحاسد يسعى بكل جهدٍ يؤدي إلى زوال النعمة عن غيره والعياذُ بالله، وهو خلاف الغبطة التي هي صفة للمؤمنين بأن يتمنى الشخص ما لدى غيره من خير مع عدم إرادة إلحاق الضرر به؛ كمن يتمنى أن يرزقه الله مالاً كفُلان ينفِقه في سبيل الله، أو تمنى أن يكون حافظًا للقرآن ليتلوَه آناء الليل وأطراف النهار.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن هناك دواعي للحسد، ذكر الماوردي رحمه الله دواعيَ ثلاثة وهي:
1- بغض الحاسد للمحسود، فيأسى عليه بفضيلةٍ تَظهر أو منقبةٍ تُشكر، فيثير حسدًا.
2- أن يظهرَ من المحسودِ فضلٌ يعجز عنه الحاسد، فيكره تقدمه فيه واختصاصه به، فيثير ذلك حسدًا لولاه لكف عنه.
3- أن يكون في الحاسد شُحٌ بالفضلِ وبخل بالنعمِ وليست إليه، فَيمنعُ منها لأنها مواهب قد منحها الله من شاء، فيسخَطُ على الله عز وجل في قضائِه، ويَحسُدُ على ما مَنَحَ من عطائه، وإن كانت نِعَمُ الله عز وجل عندَهُ أكثر ومنَحُهُ عليه أظهر، وهذا النوع من الحسد أعمّها وأخبثها؛ إذ ليس لصاحبه راحة ولا لرضاه غاية، فإن اقترن بشرٍ وقُدرةٍ كان جورًا وانتقامًا، وإن صادف عجزًا ومهانة كان جَهْدًا وسِقامًا.
وأضاف الغزالي إلى ذلك من الأسباب: الخوفُ من فوت المقاصد، وذلك يختصّ بالمتزاحمين على مقصود واحد، فإن كلَ واحدٍ يَحسِدُ صاحبه في كل نعمةٍ تكون عونًا له في الانفراد بمقصوده، ومن هذا الجنس تحاسدُ الضَّرَّاتِ في التزاحمِ على مقاصد الزوجية وتحاسدُ الإخوة على نيل المنزلة في قلب الأبوين للتوصّل به إلى مقاصد الكرامة والمال.
معاشر المسلمين، إن مما يندى له الجبين ويحزن له القلب أن تجدَ من يشجعُ على الحسد والاتصافِ بصفات الحاسدين بشكلٍ مباشرٍ أو غيرِ مباشر، وذلك بوضع الحاسد وتصرفاته في قالب الطرفة والفكاهة، بل وحتى المثالية! وهذا والله من نقص العقل والدين وقلب القِيَم والموازين التي يتساهل فيها كثيرٌ من الناس، ويأتي أثرها عليهم أو حتى في ذراريهم بعد حين، حيث إن الناظر في أحوال أولئك يجدُ العجب، فهذا يفخر بأنه يستطيع أن يحسدَ غيره، وآخر يرى أنه يستطيع أن يحقّق مآربه بالحسد، وذلك بابتلاءِ الناس في أنفسهم وابتزازِهم في أموالهم وأولادهم ولا حول ولا قوة إلا بالله. فتنبهوا ـ معاشر الآباء والمربين ـ لمن استرعاكم الله مسؤوليتهم من البنات والبنين بأن لا تقلب في أعينهم الحقائق والموازين، فالحسد خلقٌ ذميمٌ، مضرّ بالبدنِ ومفسد للدينِ، ولقد أمر الله بالاستعاذة من شره، فقال تعالى: وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [الفلق: 5]، وناهيكم بحال ذلك شرًا، ولو لم يكن من ذم الحسد إلا أنه خلق دنيء يتوجّه نحو الأَكْفَاءِ والأقاربِ فالنزاهة منه كرم والسلامة منه مغنم.
أيها المسلمون، واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن للحسد مضار كثيرة منتنة، منها إسخاط الله تعالى في معارضته واجتناء الأوزار في مخالفته، إذ ليس يرى الحاسد لقضاء الله عدلاً ولا لنعمه من الناس أهلاً. ومنها حسرات النفس وسقام الجسد، ثم لا يجد لحسرته انتهاء، ولا يؤمل لسقامه شفاء. ومنها انخفاض المنزلة وانحطاط المرتبة. ومنها مقت الناس له حتى لا يجد فيهم محبًا، وعداوتهم له حتى لا يرى فيهم وليًا، فيصير بالعداوة مأثورًا وبالمقت مزجورًا. ومنها أيضًا أن الحسد جالب للنقم ومزيل للنعم، ومنبع للشرور العظيمة ومفتاح للعواقب الوخيمة، يورث الحقد والضغينة، كما أنه معول هدم في المجتمع، ودليلٌ على سفول الخلق ودناءة النفس بالطبع.
قال أبو الدرداء رضي الله عنه: (ما أكثرَ عبدٌ من ذكرِ الموتِ إلا قل فرحه وقل حسده)، وقال الحسن: "يا ابن آدم، لِمَ تَحْسُدُ أخاك؟ فإن كان الذي أعطاه لكرامتِهِ عليه فَلِمَ تَحْسُدُ من أكرمهُ الله؟! وإن كان غير ذلك فلم تحسد من مصيره إلى النار؟!" والعياذ بالله. وقال بعض السلف: "الحسدُ أولُ ذنبٍ عُصي الله به في السماء ـ يعني حسدَ إبليسَ لآدم عليه السلام ـ، وأول ذنب عُصي الله به في الأرض" يعني حسدَ ابنِ آدم لأخيه حتى قتله. وقال عبدُ الله ابنُ المعتز رحمه الله:
اصبر على كيـد الحسود فإن صبرَكَ قـاتلُـه
فالنـار تأكُـلُ بعضهـا إن لم تجد ما تأكُلُـه
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وتاب علي وعليكم إنه هو التواب الرحيم، أقول قولي هذا، واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعملوا بوصية رسول الله : ((لا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا)) رواه البخاري ومسلم
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن الحسد يعالج بأمور هي له حسم إن صادفها عزم فمنها: اتباعُ الدين في اجتنابه، والرجوعُ إلى الله عز وجل في آدابه، فيقهرُ نفسه على مَذمُومِ خُلُقِها ويَنّقُلُها عن لئيم طبعها، وإن كان نقل الطباع عسرًا لكن بالمتابعة والتدريج يسهل منها ما استُصعب ويُحَبَّبُ منها ما أَتْعَب. ومنها التوظيفُ الصحيحُ للعقلِ الذي يستقبِحُ به من نتائجِ الحسدِ ما لا يرضِيه.
قال ابن القيم رحمه الله "ويندفع شر الحاسد عن المحسود بعشرة أسباب:
السبب الأول: التعوذُ بالله من شره والتحصن به واللجوء إليه.
السبب الثاني: تقوى الله وحفظُهُ عند أمره ونهيه، فمن اتقى اللهَ تولى اللهُ حفظَهُ، ولم يكله إلى غيره.
السبب الثالث: الصبر على عدوّهِ، وأن لا يقاتلَه ولا يشكوه، ولا يُحَدِّث نفسَه بأذاهُ أصلاً، فما نُصِرَ على حاسِدِهِ وعدوه بمثل الصبر عليه.
السبب الرابع: التوكُل على الله، فمن توكَل على اللهِ فهو حسبه، والتوكُل من أقوى الأسبابِ التي يدفَعُ بها العبد ما لا يُطيق من أذى الخَلقِ وظلمهم وعدوانهم، فإن اللهَ كافيه، ومن كان الله كافيه وواقيه فلا مطمع لعدوه فيه.
السبب الخامس: فراغُ القلبِ من الاشتغالِ به والفكرِ فيه، وأن يقصدَ أن يمحُوهُ من باله كُلما خَطَرَ له، فلا يلتفُت إليه ولا يخافه، ولا يملأُ قلبه بالفكر فيه، وهذا من أنفع الأدوية وأقوى الأسباب على اندفاع شره.
السبب السادس: وهو الإقبالُ على الله والإخلاصُ له وجعلُ محبَتِه ورضاه والإنابة إليه في محلِ خواطرِ نفسه وأمانيها تدب فيها دَبِيبَ تلك الخواطرِ شيئًا فشيئًا حتى يقهرَها ويغمرَها ويذيبَها بالكليةِ، فتبقى خواطرُه وهواجسُه وأمانِيُّهُ كلُها في محاب الرّب والتقربِ إليه.
السبب السابع: تجريدُ التوبَةِ إلى اللهِ من الذنوب التي سَلَّطَت عليه أعداءَه، فإن الله تعالى يقول: وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ [الشورى: 30].
السبب الثامن: الصدقَةُ والإحسانُ ما أمكنه، فإن لذلك تأثيرًا عجيبًا في دفع البلاءِ ودفع العينِ وشرِ الحاسدِ، ولو لم يكن في هذا إلا بتجارب الأمم قديمًا وحديثًا لكُفِيَ به، فما حَرَسَ العبد نعمة الله عليه بمثل شُكرِها، ولا عرَّضَها للزوالِ بمثلِ العملِ فيها بمعاصي الله، وهو كُفران النعمةِ، وهو باب إلى كفرانِ المُنعِم.
السبب التاسع: وهو من أصعبِ الأسبابِ على النفسِ وأشقِها عليها، ولا يُوفَّقُ له إلا من عَظُم حظُهُ من الله، وهو إطفاءُ نارِ الحاسِدِ والباغِي والمؤذِي بالإحسانِ إليه، فكلما ازداد أذى وشرًا وبغيًا وحسدًا ازددت إليه إحسانًا، وله نصيحةً، وعليه شفقةً، وما أظُنُكَ تُصدقُ بأنَّ هذا يكونُ فضلاً عن أن تتعاطاه، فاستمِع الآنَ إلى قوله عز وجل: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [فصلت: 34-36].
السبب العاشر: وهو الجامع لذلك كلِّه، وهو تجريدُ التوحيدِ والتَّرَحُلُ بالكُفرِ في الأسباب إلى المسبِبِ العزيزِ الحكيمِ، والعِلمُ بأن هذه الآلات بمنزلة حركات الرِّياح، وهي بِيَدِ مُحرِّكِها وفاطِرِها، ولا تَضُرُ ولا تنفَعُ إلا بإذنه، فهو الذي يُحسنُ عبدهُ بها، وهو الذي يصرِفُها عنه وحدَه لا أحدَ سواه، قال تعالى: وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [يونس: 107].
هذا وصلوا وسلموا على نبيكم نبي الرحمة والهدى... | |
|